فصل: بيع الفضوليّ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


بيع الفضوليّ

التّعريف

1 - البيع في اللّغة‏:‏ مبادلة شيء بشيء‏.‏

وفي الشّرع هو‏:‏ مبادلة المال المتقوّم بالمال المتقوّم تمليكاً وتملّكاً‏.‏

والفضوليّ لغةً‏:‏ مَنْ يشتغل بما لا يعنيه‏.‏

وأمّا في الاصطلاح فهو‏:‏ من لم يكن وليّاً ولا أصيلاً ولا وكيلاً في العقد‏.‏

وجاء في العناية‏:‏ أنّ الفضوليّ بضمّ الفاء لا غير، والفضل‏:‏ الزّيادة، وغلب استعمال الجمع ‏(‏فضول‏)‏ بدلاً من المفرد ‏(‏فضل‏)‏ فيما لا خير فيه‏.‏ وقيل‏:‏ لمن يشتغل بما لا يعنيه فضوليّ، وهو في اصطلاح الفقهاء‏:‏ من ليس بوكيل‏.‏

وجاء في حاشية الشّلبيّ على تبيين الحقائق‏:‏ وفي حاشية ابن عابدين أنّ الفضوليّ‏:‏ هو من يتصرّف في حقّ الغير بغير إذن شرعيّ، كالأجنبيّ يزوّج أو يبيع‏.‏ ولم ترد النّسبة إلى الواحد وهو الفضل، وإن كان هو القياس، لأنّه صار بالغلبة كالعلم لهذا المعنى، فصار كالأنصاريّ والأعرابيّ‏.‏ هذا، ولفظ الفضوليّ عند الفقهاء يتناول كلّ من يتصرّف بلا ملك ولا ولاية ولا وكالة، كالغاصب إذا تصرّف في المغصوب بالبيع أو غيره، والوكيل إذا باع أو اشترى أو تصرّف مخالفاً لما أمره به موكّله، فهو أيضاً يعتبر بهذه المخالفة فضوليّاً، لأنّه تجاوز الحدود الّتي قيّده بها موكّله‏.‏

الحكم التّكليفي

2 - الفقهاء الّذين يرون أنّ بيع الفضوليّ باطل مقتضى مذهبهم حرمة الإقدام على بيع الفضوليّ لأنّه تسبّب للمعاملات الباطلة‏.‏ أمّا من رأى صحّته - وهم الحنفيّة والمالكيّة - فقد صرّح المالكيّة بأنّ بيع الفضوليّ بلا مصلحة للمالك حرام، أمّا إن باع للمصلحة كخوف تلف أو ضياع فغير حرام، بل ربّما كان مندوباً‏.‏

ولم نجد للحنفيّة تصريحاً بالحكم التّكليفيّ‏.‏

الحكم الإجماليّ

3 - للفقهاء في بيع الفضوليّ اتّجاهان من حيث الجملة‏.‏

أحدهما‏:‏ يجيز البيع ويوقف نفاذه على إجازة المالك‏.‏

والثّاني‏:‏ يمنع البيع ويبطله‏.‏ وأمّا الشّراء، فإنّ منهم من يجيزه ويجعله موقوفاً على الإجازة كالبيع، ومنهم من لا يجعله كذلك، ومنهم من يذكر فيه تفصيلاً‏.‏

الأدلّة‏:‏

4 - استدلّ القائلون بجواز بيع الفضوليّ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتعاونوا على البرّ والتّقوى‏}‏ وفي هذا إعانة لأخيه المسلم‏.‏ واستدلّوا أيضاً بحديث «عروة بن أبي الجعد البارقيّ، وهو أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً ليشتري له به شاةً، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، فجاء بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التّراب لربح فيه»‏.‏ وبحديث حكيم بن حزام وهو «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعثه ليشتري له أضحيّةً بدينار، فاشترى أضحيّةً، فأربح فيها ديناراً، فاشترى أخرى مكانها، فجاء بالأضحيّة والدّينار إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ضحّ بالشّاة وتصدّق بالدّينار»‏.‏ فهذا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أجاز هذا البيع، ولو كان باطلاً لردّه، وأنكر على من صدر منه، وأيضاً فإنّ هذا تصرّف تمليك، وقد صدر من أهله فوجب القول بانعقاده، إذ لا ضرر فيه للمالك مع تخييره، بل فيه نفعه، حيث يكفي مؤنة طلب المشتري وقرار الثّمن ‏(‏أي المطالبة‏)‏ وغيره، وفيه نفع العاقد لصون كلامه عن الإلغاء، وفيه نفع المشتري لأنّه أقدم عليه طائعاً، فثبتت القدرة الشّرعيّة تحصيلاً لهذه الوجوه‏.‏

5- واستدلّ القائلون بعدم الجواز بما روي عن حكيم بن حزام قال‏:‏ «سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ فقلت‏:‏ يأتيني الرّجل فيسألني من البيع ما ليس عندي، أبتاع له من السّوق ثمّ أبيعه ‏؟‏ قال‏:‏ لا تبع ما ليس عندك»‏.‏

واستدلّوا أيضاً بحديث عمرو بن شعيب قال‏:‏ حدّثني أبي عن أبيه حتّى ذكر عبد اللّه بن عمرو رضي الله عنهما، أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا يحلّ سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك»‏.‏ وبما روي أيضاً عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا طلاق إلاّ فيما تملك، ولا عتق إلاّ فيما تملك، ولا بيع إلاّ فيما تملك»‏.‏ فهذه الأحاديث تدلّ على أنّ بيع الفضوليّ باطل، لأنّه تصرّف بلا ملك ولا إذن ولا ولاية ولا وكالة‏.‏ وأيضاً فإنّه باع ما لا يقدر على تسليمه فلم يصحّ، كبيع الآبق والسّمك في الماء والطّير في الهواء‏.‏

وفيما يلي تفصيل المذاهب في تصرّف الفضوليّ‏:‏

- أ - تصرّف الفضوليّ في البيع‏:‏

6 - اتّفق الفقهاء على أنّ من شروط البيع‏:‏ أن يكون المبيع مملوكاً للبائع، أو له عليه ولاية أو وكالة تجيز تصرّفه فيه، واتّفقوا أيضاً على صحّة بيع الفضوليّ، إذا كان المالك حاضراً وأجاز البيع، لأنّ الفضوليّ حينئذ يكون كالوكيل‏.‏ واتّفقوا أيضاً على عدم صحّة بيع الفضوليّ إذا كان المالك غير أهل للإجازة، كما إذا كان صبيّاً وقت البيع‏.‏

7- ومحلّ الخلاف في بيع الفضوليّ إذا كان المالك أهلاً للتّصرّف وبيع ماله وهو غائب، أو كان حاضراً وبيع ماله وهو ساكت، فهل يصحّ بيع الفضوليّ أو لا يصحّ ‏؟‏

ذهب الحنفيّة والمالكيّة، والشّافعيّ في القديم، وهو أحد قوليه في الجديد، وأحمد في إحدى الرّوايتين عنه‏:‏ إلى أنّ البيع صحيح، إلاّ أنّه موقوف على إجازة المالك‏.‏ وذهب الشّافعيّ في القول الثّاني من الجديد، وأحمد في الرّواية الأخرى عنه‏:‏ إلى أنّ البيع باطل‏.‏

8- وهذا كلّه من حيث الإجمال فقط، وذلك لأنّ الحنفيّة يذكرون شروطاً لنفاذ بيع الفضوليّ، وهي عبارة عن بقاء الملك، ويتحقّق ببقاء العاقدين‏:‏ البائع والمشتري، وبقاء المعقود عليه بلا تغيير، لأنّ الإجازة تصرّف في العقد، فلا بدّ من قيامه، وذلك بقيام العاقدين ومحلّ العقد، كما هو الحال في إنشاء العقد‏.‏

واشترطوا أيضاً أن لا يبيع الفضوليّ الشّيء على أنّه لنفسه‏.‏ وأمّا الثّمن فإنّهم اشترطوا قيامه إن كان عرضاً، لأنّ العرض يتعيّن بالتّعيين فصار كالمبيع، ولم يشترطوا قيام الثّمن إن كان ديناً‏.‏ واشترطوا أيضاً‏:‏ بقاء المالك الأوّل، وهو المعقود له مع علمه بحال المبيع وقت الإجازة من وجوده أو عدمه، لأنّ العقد موقوف على إجازته، فلا ينفذ بإجازة غيره، فلو مات المالك لم ينفذ بإجازة الوارث، سواء أكان الثّمن ديناً أم عرضاً‏.‏

ولو لم يعلم المالك حال المبيع وقت الإجازة من بقائه أو عدمه جاز البيع في قول أبي يوسف أوّلاً، وهو قول محمّد، لأنّ الأصل بقاؤه‏.‏ ثمّ رجع أبو يوسف وقال‏:‏ لا يصحّ ما لم يعلم المالك قيام المبيع عند الإجازة، لأنّ الشّكّ وقع في شرط الإجازة، فلا يثبت مع الشّكّ‏.‏

9- وإذا أجاز المالك صار المبيع ملكاً للمشتري والثّمن مملوكاً له أمانةً في يد الفضوليّ، فلو هلك لا يضمنه كالوكيل، فإنّ الإجازة اللاحقة بمنزلة الوكالة السّابقة، من حيث إنّه بها صار تصرّفه نافذاً، ولذا يسمّى هذا النّوع من الإجازة ‏(‏إجازة عقد‏)‏‏.‏

هذا إذا كان الثّمن ديناً، فإن كان عيناً بأن باع الفضوليّ ملك غيره بعرض معين بيع مقايضة، اشترط قيام الأربعة المذكورة، وهي‏:‏ العاقدان والمبيع ومالكه الأوّل، وخامس وهو ذلك الثّمن العرض، وإذا أجاز مالك المبيع - والثّمنُ عرض - فالفضوليّ يكون ببيع مال الغير مشترياً للعرض من وجه، والشّراء لا يتوقّف إذا وجد نفاذاً، فينفذ على الفضوليّ، فيصير مالكاً للعرض، والّذي تفيده الإجازة أنّه أجاز للفضوليّ أن ينقد ثمن ما اشتراه من ذلك العرض من ماله، ولذا تسمّى إجازة العقد، كأنّه قال‏:‏ اشتر هذا العرض لنفسك، وانقده ثمنه من مالي هذا قرضاً عليك، فإن كان مثليّاً فعليه مثله، وإن كان قيميّاً كثوب فقيمته‏.‏ فيصير مستقرضاً للثّوب‏.‏

والقرض وإن لم يجز في القيميّات لكنّ ذلك إذا كان قصداً‏.‏ وهنا إنّما يثبت ضمناً مقتضًى لصحّة الشّراء، فيراعى فيه شرائط صحّة المقتضي، وهو الشّراء لا غير‏.‏

10 - وصرّح الحنفيّة بأنّ للفضوليّ أن يفسخ قبل إجازة المالك، دفعاً للحوق الضّرر عن نفسه، لأنّ حقوق البيع ترجع إليه، بخلاف الفضوليّ في النّكاح، لأنّه معبّر محض‏.‏

11 - وذكر الحنفيّة أيضاً أنّ الفضوليّ بعد الإجازة يصير حكمه حكم الوكيل، حتّى لو حطّ من الثّمن ثمّ أجاز المالك البيع يثبت البيع والحطّ، سواء علم المالك الحطّ أو لم يعلم، إلاّ أنّه إذا علم بالحطّ بعد الإجازة يثبت له الخيار‏.‏ ووجهه كما في جامع الفصولين أنّه يصير بالإجازة كوكيل، ولو حطّه الوكيل لا يتمكّن الموكّل من مطالبة المشتري به، كذا هذا‏.‏

12 - واشترط المالكيّة لصحّة بيع الفضوليّ ثلاثة شروط‏:‏

أحدها‏:‏ أن لا يكون المالك حاضراً مجلس البيع، ولكنّه حاضر في البلد، أو غائب عنه غيبةً قريبةً، لا بعيدةً بحيث يضرّ الصّبر إلى قدومه أو مشورته‏.‏ فإن كان حاضراً مجلس العقد وسكت لزمه البيع، وللبائع الثّمن، فإن مضى نحو عام ولم يطالب بالثّمن فلا شيء له على البائع، ولا يعذر بجهل في سكوته إذا ادّعاه‏.‏ ومحلّ مطالبة المالك للفضوليّ بالثّمن ما لم يمض عام، فإن مضى العام وهو ساكت سقط حقّه في الثّمن‏.‏ هذا إن بيع بحضرته، أمّا إن بيع في غيبته فله نقض البيع إلى سنة، فإن مضت سقط حقّه في النّقض‏.‏

ولا يسقط حقّه في الثّمن ما لم تمض مدّة الحيازة، وهي عشرة أعوام‏.‏

ثانيها‏:‏ أن يكون في غير الصّرف، وأمّا فيه فإنّه يفسخ‏.‏

ثالثها‏:‏ أن يكون في غير الوقف، وأمّا فيه فباطل لا يتوقّف على رضا واقفه، وإن كان الملك له‏.‏

13 - وذكر المالكيّة أيضاً أنّ للمالك نقض بيع الفضوليّ، غاصباً أو غيره إن لم يفت، فإن فات بذهاب عينه فقط، فعليه الأكثر من ثمنه وقيمته‏.‏

وقالوا‏:‏ إنّ للمشتري من الفضوليّ الغلّة قبل علم المالك، إذا كان المشتري غير عالم بالتّعدّي، أو كانت هناك شبهة تنفي عن البائع التّعدّي، لكونه حاضناً للأطفال مثلاً كالأمّ تقوم بهم وتحفظهم، أو لكونه من سبب المالك أي من ناحيته ممّن يتعاطى أموره، ويزعم أنّه وكيل، ثمّ يقدم المالك وينكر ونحو ذلك‏.‏ ويدلّ له مسألة اليمين‏:‏ أن لا يبيع لفلان، فباع لمن هو من سببه‏.‏ وتذكر كتب المالكيّة أيضاً حكماً آخر فرّعوه على الجواز لم يصرّح به غيرهم، وهو حكم قدوم الفضوليّ على البيع، فقد ذكر الدّسوقيّ في حاشيته‏:‏ أنّه قد قيل بمنعه، وقيل‏:‏ بجوازه، وقيل بمنعه في العقار والجواز في العروض‏.‏

14 - هذا والقول ببطلان بيع الفضوليّ عند الشّافعيّة هو الصّحيح المنصوص عليه في الجديد، وبه قطع صاحب المهذّب وجماهير العراقيّين، وكثيرون، أو الأكثرون من الخراسانيّين كما جاء في المجموع‏.‏

وأمّا القول بانعقاده موقوفاً على إجازة المالك فهو القول القديم الّذي حكاه الخراسانيّون وجماعة من العراقيّين، منهم المحامليّ في اللّباب والشّاشيّ وصاحب البيان‏.‏

وأمّا قول إمام الحرمين‏:‏ إنّ العراقيّين لم يعرفوا هذا القول، وقطعوا بالبطلان، فمراده متقدّموهم كما جاء في المجموع‏.‏ ثمّ إنّ كلّ من حكاه إنّما حكاه عن القديم خاصّةً، وهو نصّ للشّافعيّ في البويطيّ، وهو من الجديد، قال الشّافعيّ في آخر باب الغصب من البويطيّ‏:‏ إن صحّ حديث عروة البارقيّ، فكلّ من باع أو أعتق ملك غيره بغير إذنه ثمّ رضي، فالبيع والعتق جائزان‏.‏ هذا نصّه، وقد صرّح حديث عروة البارقيّ السّابق نصّه، فصار للشّافعيّ قولان في الجديد أحدهما موافق للقديم‏.‏

وظاهر كلام الشّيخين ‏(‏أي الرّافعيّ والنّوويّ‏)‏ على قول الوقف أنّ الموقوف الصّحّة، وقال إمام الحرمين‏:‏ الصّحّة ناجزة، وإنّما الموقوف الملك، وجرى عليه في الأمّ‏.‏

والمعتبر عندهم في الإجازة إجازة من يملك التّصرّف عند العقد، فلو باع الفضوليّ مال الطّفل، فبلغ وأجاز لم ينفذ‏.‏ ومحلّ الخلاف في بيع الفضوليّ عندهم كما جاء في نهاية المحتاج ما لم يحضر المالك، فلو باع مال غيره بحضرته وهو ساكت لم يصحّ قطعاً‏.‏ والخلاف المذكور عندهم في بيع الفضوليّ من حيث البطلان أو الانعقاد يجري في كلّ من زوّج ابنة غيره، أو طلّق منكوحته، أو أجّر داره، أو وهبها بغير إذنه‏.‏

15 - والمذهب عند الحنابلة، وعليه أكثر الأصحاب‏:‏ عدم صحّة بيع الفضوليّ كما جاء في الإنصاف‏.‏ وجاء فيه أيضاً‏:‏ أنّ هذا هو الّذي جزم به في الوجيز وغيره، وقدّمه في الفروع، والمحرّر، والرّعايتين، والحاويين، والنّظم وغيرها‏.‏

وذكر صاحب كشّاف القناع أنّ البيع لا يصحّ، حتّى لو كان المالك حاضراً وسكت، ثمّ أجازه بعد ذلك لفوات شرطه، أي لفوات الملك والإذن وقت البيع‏.‏

وأمّا الرّواية الّتي تصحّح بيع الفضوليّ وتجعله موقوفاً على الإجازة، فقد اختارها صاحب الفائق كما جاء في الإنصاف، وقال‏:‏ قبض ولا إقباض قبل الإجازة‏.‏

ب - تصرّف الفضوليّ في الشّراء‏:‏

16 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ شراء الفضوليّ لا يتوقّف على الإجازة، إذا وجد نفاذاً على العاقد، فإن لم يجد نفاذاً يتوقّف، كشراء الصّغير المحجور عليه‏.‏ وإنّما ينفذ الشّراء على المشتري إذا لم يضفه إلى آخر ووجد الشّراء النّفاذ عليه، ولم يسبق بتوكيل للمشتري من آخر‏.‏ فأمّا إن كان كذلك فالشّراء يتوقّف‏.‏ وفي الوكالة ينفذ على الموكّل، فإنّه ذكر في شرح الطّحاويّ‏:‏ ولو اشترى رجل لرجل شيئاً بغير أمره كان ما اشتراه لنفسه، أجاز الّذي اشتراه له أو لم يجز‏.‏ أمّا إذ أضافه إلى آخر، بأن قال للبائع‏:‏ بع عبدك من فلان، فقال‏:‏ بعت، وقبل المشتري هذا البيع لفلان فإنّه يتوقّف‏.‏

17 - أمّا شراء الفضوليّ عند المالكيّة فهو كبيعه، أي يتوقّف على إجازة المشترى له، فإن لم يجز الشّراء لزمت السّلعة المشتري الفضوليّ، فإن كان الثّمن مدفوعاً من مال المشتري له فلا رجوع له على البائع في حال عدم الإجازة، إلاّ أن يكون الفضوليّ ‏(‏المشتري‏)‏ أشهد عند الشّراء‏:‏ أنّه إنّما اشترى لفلان بماله، وأنّ البائع يعلم ذلك، أو صدّق المشتري في قوله، أو تقوم بيّنة على أنّ الشّيء الّذي اشترى به هو ملك المشتري له‏.‏ فإن أخذ المشتري له ماله، ولم يجز الشّراء انتقض البيع فيما إذا صدّق البائع، ولم ينتقض في قيام البيّنة أنّ المال له، بل يرجع على المشتري بمثل الثّمن، ويلزمه البيع على قول ابن القاسم وأصبغ‏.‏ وقال ابن الماجشون‏:‏ القول قول المشتري له، فيحلف أنّه ما أمر المشتري، ويأخذ ماله إن شاء من المشتري، وإن شاء من البائع‏.‏ فإن أخذه من البائع كان له أن يرجع على المشتري ويلزمه الشّراء، وإن أخذه من المشتري لم يكن له رجوع على البائع‏.‏

18 - وأمّا الشّافعيّة‏:‏ فذكروا في شراء الفضوليّ تفصيلاً، لأنّ الفضوليّ إمّا أن يشتري لغيره بعين مال الغير، وإمّا أن يشتري لغيره في الذّمّة، وإمّا أن يشتري لغيره بمال نفسه‏.‏ فإن اشترى لغيره بعين مال الغير ففيه قولان‏:‏ الجديد بطلانه، والقديم وقفه على الإجازة‏.‏ وإن اشترى في الذّمّة نظر إن أطلق أو نوى كونه للغير، فعلى الجديد يقع للمباشر، وعلى القديم يقف على الإجازة، فإن ردّ نفذ في حقّ الفضوليّ‏.‏ ولو قال‏:‏ اشتريت لفلان بألف في ذمّته، فهو كاشترائه بعين مال الغير‏.‏ ولو اقتصر على قوله‏:‏ اشتريت لفلان بألف، ولم يضف الثّمن إلى ذمّته فعلى الجديد وجهان، أحدهما‏:‏ يلغو العقد، والثّاني‏:‏ يقع عن المباشر‏.‏ وعلى القديم يقف على إجازة فلان، فإن ردّ ففيه الوجهان‏.‏

ولو اشترى شيئاً لغيره بمال نفسه نظر‏:‏ إن لم يسمّه وقع العقد عن المباشر، سواء أذن ذلك الغير أم لا، وإن سمّاه نظر‏:‏ إن لم يأذن له لغت التّسمية، وهل يقع عنه أم يبطل ‏؟‏ وجهان‏.‏ وإن أذن له، فهل تلغو التّسمية، وجهان‏.‏ فإن قلنا‏:‏ نعم، فهل يبطل من أصله، أم يقع عن المباشر ‏؟‏ فيه الوجهان، وإن قلنا‏:‏ لا، وقع عن الآذن‏.‏

وهل يكون الثّمن المدفوع قرضاً أم هبةً ‏؟‏ وجهان‏.‏

19 - وأمّا شراء الفضوليّ عند الحنابلة فإنّه لا يصحّ، إلاّ إن اشترى في ذمّته ونوى الشّراء لشخص لم يسمّه فيصحّ، سواء نقد الثّمن من مال الغير أم لا، لأنّ ذمّته قابلة للتّصرّف، فإن سمّاه أو اشترى للغير بعين ماله لم يصحّ الشّراء، ثمّ إن أجازه ‏(‏أي الشّراء‏)‏ من اشتري له ملكه من حين اشتري له، لأنّه اشتري لأجله، فأشبه ما لو كان بإذنه، فتكون منافعه ونماؤه له‏.‏ فإن لم يجزه وقع الشّراء للعاقد ولزمه حكمه، كما لو لم ينو غيره، وليس له التّصرّف فيه قبل عرضه على من نواه له‏.‏

بيع ما لم يقبض

1- ثبت في الحديث الصّحيح عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتّى يقبضه»‏.‏ وفي لفظ «حتّى يكتاله» وفي لفظ آخر‏:‏ «حتّى يستوفيه» قال ابن عبّاس ‏"‏ راوي الحديث ‏"‏‏:‏ ولا أحسب كلّ شيء إلاّ مثله‏.‏

وفي رواية‏:‏ «إذا اشتريت بيعاً فلا تبعه حتّى تقبضه»‏.‏

وقد ذهب الفقهاء مذاهب في بيع المبيع قبل قبضه‏.‏

2 - فمذهب الشّافعيّة، وهو قول أبي يوسف الأوّل، وقول محمّد، وهو أيضاً رواية عن الإمام أحمد‏:‏ أنّه لا يصحّ بيع المبيع قبل قبضه، سواء أكان منقولاً أم عقاراً، وإن أذن البائع، وقبض الثّمن‏.‏ وذلك لحديث حكيم بن حزام رضي الله عنه «قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول اللّه‏:‏ إنّي أشتري بيوعاً، فما يحلّ لي منها، وما يحرم عليّ ‏؟‏ قال‏:‏ إذا اشتريت بيعاً فلا تبعه حتّى تقبضه» وحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏«لا يحلّ سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك»‏.‏ ومعنى «ربح ما لم يضمن» ربح ما بيع قبل القبض‏.‏ مثل‏:‏ أن يشتري متاعاً، ويبيعه إلى آخر قبل قبضه من البائع، فهذا البيع باطل، وربحه لا يجوز، لأنّ المبيع في ضمان البائع الأوّل، وليس في ضمان المشتري منه، لعدم القبض‏.‏

ولحديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السّلع حيث تبتاع، حتّى يحوزها التّجّار إلى رحالهم»‏.‏ والمراد بحوز التّجّار‏:‏ وجود القبض، كما في الحديث قبله‏.‏ ولضعف الملك قبل القبض، لانفساخ العقد بتلفه‏.‏ وهذا هو المعنى الّذي علّل به الشّافعيّة النّهي عن البيع قبل القبض‏.‏

وعلّل الحنابلة، عدم الجواز على هذه الرّواية الّتي اختارها ابن عقيل من أئمّتهم، بأنّه لم يتمّ الملك عليه، فلم يجز بيعه، كما لو كان غير متعيّن، وكما لو كان مكيلاً أو موزوناً‏.‏

3 - ومذهب الحنفيّة أنّه لا يصحّ بيع المنقول قبل قبضه، ولو كان من بائعه، وذلك للحديث المذكور برواياته، فإنّه منهيّ عن بيع المبيع قبل قبضه‏.‏

ولأنّ في البيع قبل القبض غرر انفساخ العقد الأوّل، على تقدير هلاك المبيع في يد البائع، وإذا هلك المبيع قبل القبض ينفسخ العقد، فيتبيّن أنّه باع ما لا يملك، والغرر حرام غير جائز، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر»‏.‏

ولا يفرّق الحنفيّة في ذلك بين الطّعام وبين غيره من المنقولات، وذلك‏:‏ لقول ابن عبّاس كما تقدّم آنفاً‏:‏ ولا أحسب كلّ شيء إلاّ مثله، أي مثل الطّعام‏.‏

وعضّد قول ابن عبّاس ما روي عن ابن عمر، قال‏:‏ «ابتعت زيتاً في السّوق، فلمّا استوجبته، لقيني رجل، فأعطاني فيه ربحاً حسناً، فأردت أن أضرب على يده ‏"‏ أي أن أقبل إيجابه، وأتّفق على العقد ‏"‏ فأخذ رجل من خلفي بذراعي، فالتفتّ، فإذا زيد بن ثابت رضي الله عنه فقال‏:‏ لا تبعه حيث ابتعته، حتّى تحوزه إلى رحلك، فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السّلع حيث تبتاع، حتّى يحوزها التّجّار إلى رحالهم»‏.‏

وعدم الصّحّة هنا، يعني‏:‏ الفساد لا البطلان، وإن كان نفي الصّحّة يحتملهما، لكنّ الظّاهر عند الحنفيّة هو الفساد، لأنّ علّة الفساد هي الغرر، مع وجود ركني البيع، وكثيراً ما يطلق الباطل على الفاسد‏.‏

وأجاز الشّيخان من الحنفيّة - أبو حنيفة وأبو يوسف - بيع العقار قبل قبضه استحساناً، وذلك استدلالاً بعمومات حلّ البيع من غير تخصيص، ولا يجوز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد‏.‏ ولأنّه لا يتوهّم انفساخ العقد في العقار بالهلاك، بخلاف المنقول‏.‏ ولأنّ العقار مقدور التّسليم، ولا يرد عليه الهلاك إلاّ نادراً بغلبة الماء والرّمل، والنّادر لا يعتدّ به‏.‏ وقياساً على التّصرّف في الثّمن قبل قبضه، فإنّه جائز، لأنّه لا غرر فيه، كالتّصرّف في المهر وبدل الخلع والعتق وبدل الصّلح عن دم العمد، لأنّ المطلق للتّصرّف، وهو الملك، قد وجد، لكنّ الاحتراز عن الغرر واجب ما أمكن، وذلك فيما يتصوّر فيه الغرر، وهو المبيع المنقول، لا العقار‏.‏

وخالف الإمام محمّد، فلم يجز بيع العقار أيضاً قبل قبضه، وهو قول أبي يوسف الأوّل، وقول الشّافعيّ كما قدّمنا، وذلك لإطلاق الحديث، وقياساً على المنقول‏.‏

وقياساً أيضاً على الإجارة، فإنّها في العقار لا تجوز قبل القبض، والجامع اشتمالهما على ربح ما لم يضمن، فإنّ المقصود في البيع الرّبح، وربح ما لم يضمن منهيّ عنه شرعاً‏.‏ والنّهي يقتضي الفساد، فيكون البيع فاسداً قبل القبض، لأنّه لم يدخل في ضمانه، كما في الإجارة‏.‏

4 - ومذهب المالكيّة أنّ المحرّم المفسد للبيع، هو بيع الطّعام دون غيره من جميع الأشياء قبل قبضه، سواء أكان الطّعام ربويّاً كالقمح، أم غير ربويّ كالتّفّاح عندهم‏.‏

أمّا غير الطّعام فيجوز بيعه قبل قبضه، وذلك لحديث ابن عبّاس المتقدّم من «ابتاع طعاماً فلا يبعه حتّى يقبضه»‏.‏ ولغلبة تغيّر الطّعام دونما سواه‏.‏ لكنّهم شرطوا لفساد هذا النّوع من البيع، شرطين‏:‏

أ - أن يكون الطّعام مأخوذاً بطريق المعاوضة، أي في مقابلة شيء، بإجارة أو شراء أو صلح أو أرش جناية، أو آل لامرأة في صداقها، أو غير ذلك من المعاوضات، فهذا الّذي لا يجوز بيعه قبل قبضه‏.‏

أمّا لو صار إليه الطّعام بهبة أو ميراث، ممّا ليس أخذه بعوض، فيجوز بيعه قبل قبضه‏.‏

ب - وأن تكون المعاوضة بالكيل أو الوزن أو العدد، فيشتريه بكيل، ويبيعه قبل قبضه، سواء أباعه جزافاً أم على الكيل‏.‏ أمّا لو اشتراه جزافاً، ثمّ باعه قبل قبضه، فيكون بيعه جائزاً، سواء أباعه جزافاً أم على الكيل‏.‏ وعلى هذا‏:‏ فلو اشترى طعاماً كيلاً، لم يجز له بيعه قبل قبضه، لا جزافاً ولا كيلاً‏.‏

ولو اشتراه جزافاً، جاز له بيعه قبل قبضه، مطلقاً، جزافاً أو كيلاً‏.‏

5- وفي مذهب الحنابلة روايات متعدّدة في الممنوع بيعه قبل قبضه من الأموال، سبق بعضها‏:‏ فروي أنّه لا يجوز بيع الطّعام وما أشبهه قبل قبضه مطلقاً، سواء أكان مكيلاً أم موزوناً، أم لم يكن كذلك، خلافاً لمالك الّذي اشترط فيه الكيل أو الوزن كما قدّمنا، وذلك لحديث ابن عبّاس المتقدّم «من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتّى يقبضه»‏.‏

ولقول الأثرم‏:‏ سألت أبا عبد اللّه، عن قوله‏:‏ «نهى عن ربح ما لم يضمن» قال‏:‏ هذا في الطّعام وما أشبهه، من مأكول أو مشروب، فلا يبعه حتّى يقبضه‏.‏

ولقول ابن عبد البرّ‏:‏ الأصحّ أنّ الّذي يمنع من بيعه قبل قبضه‏:‏ هو الطّعام، وذلك لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الطّعام قبل قبضه» فمفهومه إباحة ما سواه قبل قبضه‏.‏ ولقول ابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ «رأيت الّذين يشترون الطّعام مجازفةً، يضربون على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتّى يؤووه إلى رحالهم»‏.‏

وللحديث المتقدّم‏:‏ «من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتّى يستوفيه»‏.‏

ولقول ابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ «كنّا نشتري الطّعام من الرّكبان جزافاً، فنهانا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتّى ننقله من مكانه»‏.‏

ولقول ابن المنذر‏:‏ أجمع أهل العلم على أنّ من اشترى طعاماً، فليس له أن يبيعه حتّى يستوفيه‏.‏ قالوا‏:‏ ولو دخل في ضمان المشتري جاز بيعه، والتّصرّف فيه، كما جاز ذلك بعد قبضه‏.‏ وعلّق الشّرح الكبير على ذلك بقوله‏:‏ وهذا أي حديث «من ابتاع طعاماً» يدلّ على تعميم المنع في كلّ طعام، مع تنصيصه على البيع مجازفةً بالمنع‏.‏ ويدلّ بمفهومه على أنّ ما عدا الطّعام يخالفه في ذلك‏.‏

وفي رواية أخرى عن الإمام أحمد‏:‏ أنّ ما كان متعيّناً، كالصّبرة تباع من غير كيل، يجوز بيعها قبل قبضها، وما ليس بمتعيّن، كقفيز من صبرة، ورطل من زبرة حديد، فإنّه لا يجوز بيعها قبل قبضها، بل حتّى تكال أو توزن‏.‏ وهذا قريب من قول مالك المتقدّم، في جواز بيع ما شري جزافاً، لولا تخصيص مالك المبيع بالطّعام‏.‏

ووجه هذه الرّواية ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه قال‏:‏ «مضت السّنّة أنّ ما أدركته الصّفقة حيّاً مجموعاً، فهو من مال المبتاع»، فلمّا جعله من ضمان المشتري مع أنّه لم يقبضه دلّ على البيع قبل القبض في المتعيّن‏.‏

ولأنّ المبيع المعيّن لا يتعلّق به حقّ توفية، فكان من مال المشتري، كغير المكيل والموزون‏.‏ وفي رواية ثالثة عن الإمام أحمد‏:‏ أنّه لا يجوز بيع شيء قبل قبضه‏.‏ وهي الّتي وافق فيها الإمام الشّافعيّ وغيره، كما تقدّم‏.‏

ورواية المذهب‏:‏ أنّ المكيل والموزون والمعدود والمذروع، لا يصحّ تصرّف المشتري فيه قبل قبضه من بائعه‏.‏ وهذا مرويّ أيضاً‏:‏ عن عثمان بن عفّان رضي الله عنه، وسعيد بن المسيّب، والحسن، والحكم، وحمّاد ابن أبي سليمان، والأوزاعيّ، وإسحاق‏.‏

ومستند هذه الرّواية في التّفرقة بين المكيل والموزون ونحوهما وبين غيرهما‏:‏ أنّ الحديث المذكور نهى عن بيع الطّعام قبل قبضه، وكان الطّعام يومئذ مستعملاً غالباً فيما يكال ويوزن، وقيس عليهما المعدود والمذروع، لاحتياجهما إلى حقّ التّوفية‏.‏ وسواء أكان المعدود متعيّناً كالصّبرة، أم غير متعيّن كقفيز منها‏.‏

أمّا ما عدا المكيل والموزون ونحوهما، فيجوز التّصرّف فيه قبل قبضه، وذلك‏:‏ لما روي ‏{‏عن ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ «أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ إنّي أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدّنانير وآخذ الدّراهم، وأبيع بالدّراهم وآخذ الدّنانير‏.‏ فقال‏:‏ لا بأس أن تأخذ بسعر يومها، ما لم تفترقا وبينكما شيء»‏.‏

قالوا‏:‏ فهذا تصرّف في الثّمن قبل قبضه، وهو أحد العوضين‏.‏

ضابط ما يمنع من التّصرّف فيه قبل قبضه

6 - اختلفت ضوابط الفقهاء، في التّصرّفات الممنوعة شرعاً قبل قبض المبيع‏:‏

أ - فاتّفق الحنفيّة والحنابلة، على هذا الضّابط وهو‏:‏

أنّ كلّ عوض ملك بعقد ينفسخ بهلاكه قبل القبض، لم يجز التّصرّف فيه قبل قبضه، وما لا ينفسخ العقد بهلاكه، جاز التّصرّف فيه قبل قبضه‏.‏

فمثال الأوّل‏:‏ المبيع والأجرة وبدل الصّلح عن الدّين، إذا كان الثّمن والأجر والبدل عيناً - عند الحنفيّة - أو كان من المكيل أو الموزون أو المعدود عند الحنبليّة‏.‏

ومثال الآخر‏:‏ المهر إذا كان عيناً - عند الحنفيّة - وكذا بدل الخلع، والعتق على مال، وبدل الصّلح عن دم العمد - وكذا أرش الجناية، وقيمة المتلف، عند الحنبليّة في هذين - كلّ ذلك إذا كان عيناً، يجوز بيعه وإجارته قبل قبضه، وسائر التّصرّفات‏.‏

وعلّل الحنابلة هذا الضّابط بقولهم‏:‏ إنّ المقتضي للتّصرّف هو الملك، وقد وجد‏.‏ لكنّ ما يتوهّم فيه غرر الانفساخ، باحتمال هلاك المعقود عليه لا يجوز بناء عقد آخر عليه تحرّزاً من الغرر، وما لا يتوهّم فيه ذلك الغرر، انتفى عنه المانع، فجاز بناء العقد الآخر عليه‏.‏

ب - ووضع محمّد بن الحسن من الحنفيّة هذا الضّابط، وهو‏:‏

- 1 - أنّ كلّ تصرّف لا يتمّ إلاّ بالقبض، كالهبة والصّدقة والرّهن والقرض والإعارة ونحوها، يجوز قبل قبض المبيع‏.‏

- 2 - وكلّ تصرّف يتمّ قبل القبض، كالمبيع والإجارة وبدل الصّلح عن الدّين إذا كان عيناً، ونحوها لا يجوز قبل قبض المبيع‏.‏

وتعليله عنده‏:‏ أنّ الهبة - مثلاً - لمّا كانت لا تتمّ إلاّ بالقبض، صار الموهوب له نائباً عن الواهب، وهو المشتري الّذي وهبه المبيع قبل قبضه، ثمّ يصير قابضاً لنفسه، فتتمّ الهبة بعد القبض‏.‏ بخلاف البيع - مثلاً - ونحوه ممّا يتمّ قبل القبض، فإنّه لا يجوز، لأنّه إذا قبضه المشتري الثّاني لا يكون قابضاً عن الأوّل، لعدم توقّف البيع على القبض، فيلزم منه تمليك المبيع قبل قبضه، وهو لا يصحّ‏.‏

وأشار التّمرتاشيّ إلى أنّ الأصحّ ما ذهب إليه الإمام محمّد‏.‏

ج - وضبط الدّردير من المالكيّة ما يمنع بيع الطّعام قبل قبضه، بأن تتوالى عقدتا بيع لم يتخلّلهما قبض‏.‏ وهذا مختصّ بالطّعام على رأيهم المتقدّم في حصر المنهيّ عن بيعه قبل قبضه في مطلق الأطعمة الرّبويّة‏.‏

ويؤخذ من كلام ابن جزيّ هذا الضّابط، وهو‏:‏ أنّ كلّ طعام أخذ معاوضةً - بغير جزاف - فليس له أن يبيعه حتّى يقبضه‏.‏ وتشمل المعاوضة‏:‏ الشّراء، والإجارة، والصّلح، وأرش الجناية، والمهر، وغيرها - على ما ذكر - فليس له بيعه حتّى يقبضه، لكن يجوز له أن يهبه أو يسلّفه قبل قبضه‏.‏

والتّقييد عند المالكيّة بغير الجزاف، لإخراج ما بيع جزافاً بغير كيل ولا عدّ ولا وزن من الطّعام، فإنّه يجوز بيعه قبل قبضه، لدخوله في ضمان المشتري بمجرّد العقد، فهو مقبوض حكماً، فليس فيه توالي عقدتي بيع لم يتخلّلهما قبض‏.‏

كما شرط المالكيّة في جواز بيع مطلق طعام المعاوضة - بالإضافة إلى شرط قبضه - أن لا يكون القبض من نفسه لنفسه، فإن قبض من نفسه لنفسه، منع بيعه، لأنّ هذا القبض الواقع بين العقدين كلا قبض‏.‏

ومعنى هذا أنّ القبض المعتدّ به في الجواز، هو القبض القويّ، فيجوز بيع الطّعام عقبه‏.‏ أمّا القبض الضّعيف، فهو كلا قبض، فلا يعقب الجواز‏.‏ مثال ذلك‏:‏

- إذا وكّله ببيع طعام، فباعه من أجنبيّ، وقبل قبض الأجنبيّ الطّعام، اشتراه الوكيل منه لنفسه، فإنّه يمتنع بيعه من نفسه، لأنّه يقبض هذه الحال من نفسه لنفسه‏.‏

- وكذلك لو وكّله بشراء طعام، فاشتراه وقبضه ثمّ باعه لأجنبيّ، واشتراه منه قبل أن يقبضه الأجنبيّ منه، فإنّه يمتنع شراؤه من نفسه، لأنّه في هذه الحال يقبض من نفسه لنفسه‏.‏ ويستثنى من عدم جواز بيع الطّعام إذا قبض من نفسه لنفسه، ما إذا كان القابض من نفسه ممّن يتولّى طرفي العقد، كوصيّ ليتيميه، ووالد لولديه الصّغيرين، فإنّه يجوز بيع طعام أحدهما للآخر، ثمّ بيعه لأجنبيّ، قبل قبضه لمن اشتراه له‏.‏

د - لم يضع الشّافعيّة ضابطاً في هذا الصّدد، لكنّهم ألحقوا - في الأصحّ من مذهبهم - بالبيع عقوداً أخرى، من حيث البطلان قبل القبض‏.‏ فنصّوا على أنّ الإجارة والرّهن والهبة - ولو من البائع - باطلة، فلا تصحّ لوجود المعنى المعلّل به النّهي فيها، وهو ضعف الملك، وكذلك الصّدقة والهديّة وعوض الخلع والصّلح عن نحو دم، والقرض والقراض والشّركة وغيرها‏.‏ وجاءت عبارة المنهج عامّةً، فنصّت على أنّه‏:‏ لا يصحّ تصرّف، ولو مع بائع، بنحو بيع ورهن فيما لم يقبض، وضمن بعقد‏.‏

لكنّهم صحّحوا تصرّف المشتري بالمبيع قبل قبضه بالإعتاق والوصيّة والتّدبير والتّزويج والوقف وقسمة الإفراز والتّعديل لا الرّدّ، وكذا إباحة طعام اشتراه جزافاً، بخلاف ما لو اشتراه مكيلاً، فلا بدّ لصحّة إباحته من كيله وقبضه‏.‏

وعلّلوا ذلك بتشوّف الشّارع إلى العتق - على حدّ تعبيرهم - وفي معناه بقيّة التّصرّفات‏.‏

7- وألحقوا أيضاً الثّمن المعيّن، سواء أكان دراهم أم دنانير أم غيرهما بالمبيع في فساد التّصرّف قبل القبض، فلا يبيعه البائع، ولا يتصرّف فيه قبل قبضه، وذلك لعموم النّهي، وللتّعليل المتقدّم‏.‏ بل قال ابن حجر‏:‏ وكلّ عين مضمونة في عقد معاوضة‏.‏ كذلك، أي لا يتصرّف فيها قبل قبضها‏.‏ فأمّا الأموال الّتي تكون للشّخص في يد غيره أمانةً كالوديعة، والمال المشترك في الشّركة والقراض، والمرهون بعد انفكاكه، والموروث، وما يملكه الغانم من الغنيمة، والمال الباقي في يد الوليّ بعد بلوغ المولى عليه رشده ونحوها، فيملك بيعها، لتمام الملك في المذكورات‏.‏

8- ولعلّه لا بأس من الإشارة هاهنا إلى أنّ الإمام الشّوكانيّ - رحمه الله - طرح ضابطاً آخر، شطره ممّا قرّره الشّافعيّة، وقال ما نظيره‏:‏

إنّ التّصرّفات الّتي تكون بعوض، تلتحق بالبيع، فيكون فعلها قبل القبض غير جائز‏.‏ والتّصرّفات الّتي لا عوض فيها، تلتحق بالهبة، فيكون فعلها قبل القبض جائزاً‏.‏ ورجّح هذا الرّأي، واستشهد له بإجماعهم على صحّة الوقف والعتق قبل القبض‏.‏ وبما علّل به النّهي عن بيع ما لم يقبض، وهو شبهة الرّبا‏:‏

فقد روي عن ابن عبّاس - رضي الله عنهما - أنّ طاوساً سأله عن سبب النّهي، فأجابه‏:‏ بأنّه إذا باع المشتري المبيع قبل قبضه، وتأخّر المبيع في يد البائع، صار كأنّه باعه دراهم بدراهم، فإذا اشترى طعاماً بمائة دينار مثلاً، ودفعها إلى البائع، ولم يقبض منه الطّعام، ثمّ باع الطّعام من شخص آخر بمائة وعشرين - مثلاً - صار كأنّه اشترى بذهبه ذهبا أكثر منه أي اشترى بمائة مائةً وعشرين‏.‏ قال الشّوكانيّ‏:‏ ولا يخفى أنّ مثل هذه العلّة لا ينطبق على ما كان من التّصرّف بغير عوض‏.‏ وهذا التّعليل أجود ما علّل به النّهي، لأنّ الصّحابة أعرف بمقاصد الرّسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

9- وقال بعض المالكيّة‏:‏ إنّ هذا النّهي تعبّد‏.‏

وأشار الدّسوقيّ منهم إلى أنّ هذا هو الصّحيح عند أهل المذهب، ونقله عن التّوضيح‏.‏

وقيل‏:‏ بل هو معقول المعنى، ومعلّل بأنّ الشّارع له غرض في ظهوره، وهو سهولة الوصول إلى الطّعام، ليتوصّل إليه القويّ والضّعيف‏.‏

ولو جاز بيعه قبل قبضه، لباع أهل الأموال بعضهم من بعض، من غير ظهور، ولخفي بإمكان شرائه من مالكه وبيعه خفيةً، فلم يتوصّل إليه الفقير، بخلاف ما إذا منع من ذلك، فإنّه ينتفع به الكيّال، والحمّال، ويظهر للفقراء، فتقوى به قلوب النّاس، لا سيّما في زمن المسغبة والشّدّة‏.‏

تحديد القبض وتحقّقه

10 - مذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ قبض كلّ شيء بحسبه

- أ - فإن كان مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً أو مذروعاً، فقبضه بالكيل أو الوزن أو العدّ أو الذّرع‏.‏ وذلك‏:‏ لحديث عثمان رضي الله عنه قال‏:‏ «كنت أبتاع التّمر من بطن من اليهود، يقال لهم‏:‏ بنو قينقاع، وأبيعه بربح، فبلغ ذلك النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا عثمان‏:‏ إذا ابتعت فاكتل، وإذا بعت فكل»‏.‏

وحديث جابر رضي الله عنه، قال‏:‏ «نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع الطّعام حتّى يجري فيه الصّاعان‏:‏ صاع البائع، وصاع المشتري»‏.‏

والمالكيّة شرطوا في قبض المثليّ تسليمه للمشتري، وتفريغه في أوعيته‏.‏

- ب - وإن كان جزافاً فقبضه نقله، وذلك لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ «كانوا يتبايعون الطّعام جزافاً بأعلى السّوق، فنهاهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتّى ينقلوه» وفي رواية‏:‏ «حتّى يحوّلوه»‏.‏

- ج - وإن كان منقولاً من عروض وأنعام، فقبضه بالعرف الجاري بين النّاس كما يقول المالكيّة‏:‏ كاحتياز الثّوب، وتسليم مقود الدّابّة‏.‏ أو ينقله إلى حيّز لا يختصّ به البائع، عند الشّافعيّة‏.‏ ويروى هذا عن أبي يوسف، كالشّارع ودار المشتري‏.‏

وفصّل الحنابلة في المنقول من العروض والأنعام فقالوا‏:‏ إن كان المبيع دراهم أو دنانير، فقبضها باليد‏.‏ وإن كان ثياباً فقبضها نقلها‏.‏ وإن كان حيواناً، فقبضه تمشيته من مكانه‏.‏

- د - وإن كان عقاراً فقبضه بالتّخلية بينه وبين المشتري، بلا حائل دونه، وتمكينه من التّصرّف فيه، بتسليمه المفتاح إن وجد، بشرط أن يفرّغه من متاع غير المشتري عند الشّافعيّة‏.‏

ولم يشترط ذلك المالكيّة إلاّ في دار السّكنى، فإنّ قبضها بالإخلاء عندهم، ولا يكتفى بالتّخلية‏.‏ أمّا غيرها من العقارات، فيتحقّق القبض بالتّخلية، وإن لم يخل البائع متاعه منها‏.‏ ويشير الشّافعيّة إلى أنّ هذا التّفصيل إنّما هو في القبض المصحّح للتّصرّف، أمّا القبض النّاقل للضّمان من البائع، فمداره على استيلاء المشتري على المبيع، سواء أنقله أم لا، وسواء أخلّى البائع بينه وبينه أم لا، وسواء أأذن له في القبض أم لا، وسواء أكان له الحقّ في الحبس أم لا، فمتى استولى المشتري على المبيع انتفى الضّمان عن البائع، بمعنى أنّه لو تلف حينئذ لا ينفسخ العقد، أو تعيّب لا يثبت الخيار للمشتري، ولو رجع إلى البائع لا يرجع الضّمان إليه‏.‏

11 - ولم يفصّل الحنفيّة - وهي رواية ابن الخطّاب عن أحمد - هذا التّفصيل في القبض، بل اعتبروا التّخلية - وهي‏:‏ رفع الموانع والتّمكين من القبض - قبضاً حكماً على ظاهر الرّواية، وروى أبو الخطّاب مثل ذلك عن أحمد وشرط مع التّخلية التّمييز‏.‏

نصّ الحنفيّة على مذهبهم هذا في الرّهن، في التّخلية بينه وبين المرتهن، وقالوا‏:‏ إنّ التّخلية فيه قبض، كما هي في البيع، فإنّها فيه أيضاً قبض‏.‏ قالوا‏:‏ لأنّها تسليم، فمن ضرورته الحكم بالقبض، فيترتّب عليه ما يترتّب على القبض الحقيقيّ، وهذا هو الأصحّ‏.‏ ومقابل الأصحّ‏:‏ المرويّ عن أبي يوسف، وهو‏:‏ أنّه لا يثبت في المنقول إلاّ بالنّقل‏.‏

12 - وعلى هذا لو باع ما اشتراه قبل أن يقبضه فربح، فهذا هو ربح ما لم يضمن، الّذي ورد فيه حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «لا يحلّ سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك»‏.‏ وفسّره محمّد بن الحسن في كتاب الآثار لمّا روى هذا الحديث من طريق آخر برواية أخرى، فقال‏:‏ وأمّا ربح ما لم يضمن‏:‏ فالرّجل يشتري الشّيء، فيبيعه قبل أن يقبضه‏.‏ وكذلك فسّره الشّوكانيّ، حيث قال‏:‏ يعني لا يجوز أن يأخذ ربح سلعة لم يضمنها، مثل‏:‏ أن يشتري متاعاً، ويبيعه إلى آخر قبل قبضه من البائع، فهذا البيع باطل، وربحه لا يجوز، لأنّ المبيع في ضمان البائع الأوّل، وليس في ضمان المشتري منه، لعدم القبض‏.‏ وكذلك فعل البهوتيّ، حيث قال‏:‏ والمراد به ربح ما بيع قبل القبض‏.‏

وهذا الحديث وإن كان عاماً، غير أنّ الإمام أحمد - رحمه الله - خصّه بالطّعام، في رواية الأثرم عنه، قال‏:‏ سألت أبا عبد اللّه، عن قوله‏:‏ «نهى عن ربح ما لم يضمن»، قال‏:‏ هذا في الطّعام، وما أشبهه من مأكول أو مشروب، فلا يبيعه حتّى يقبضه‏.‏ وقال ابن عبد البرّ‏:‏ الأصحّ عن أحمد بن حنبل، أنّ الّذي يمنع من بيعه قبل قبضه‏:‏ هو الطّعام‏.‏

بيع الصّدقة والهبة قبل القبض

13 - الصّدقة هي‏:‏ تمليك المال في الحياة من يحتاجه بغير عوض، تقرّباً إلى اللّه تعالى، وجوباً أو ندباً‏.‏ وهذا التّعريف - كما يرى - يشمل الصّدقة المفروضة، الّتي تؤخذ من مال الغنيّ في آخر الحول وهي زكاة المال، أو في آخر شهر الصّوم وهي زكاة الفطر تطهيراً للغنيّ والصّائم، ويشمل الصّدقة المتطوّع بها، وهي المستحبّة في جميع الأوقات‏.‏

وقد جاء في حديث أبي سعيد رضي الله عنه المتقدّم آنفاً، «نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن شراء الصّدقات حتّى تقبض»‏.‏ وفي حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم له‏:‏ «لا تبع ما ليس عندك»‏.‏

14 - ويعتبر جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنبليّة وبعض المالكيّة الصّدقة ونحوها، كالهبة والرّهن والقرض والإعارة والإيداع، من عقود التّبرّعات، الّتي لا تتمّ ولا تملّك إلاّ بالقبض، والعقد فيها قبل القبض يعتبر عديم الأثر‏.‏

وعبارة المرغينانيّ في فصل الصّدقة‏:‏ والصّدقة كالهبة لا تصحّ إلاّ بالقبض، لأنّه ‏(‏أي التّصدّق‏)‏ تبرّع كالهبة‏.‏

بل قال الكاسانيّ‏:‏ القبض شرط جواز الصّدقة، لا تملّك قبل القبض، عند عامّة العلماء‏.‏ واستدلّ لذلك‏:‏ بما روي «عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال خبراً عن اللّه سبحانه وتعالى‏:‏ يقول ابن آدم‏:‏ مالي مالي، وهل لك يا بن آدم من مالك إلاّ ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأمضيت» اعتبر اللّه سبحانه وتعالى الإمضاء في الصّدقة، والإمضاء هو التّسليم‏.‏ فدلّ على أنّه شرط‏.‏

وبما روي عن أبي بكر وعمر وابن عبّاس ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم أنّهم قالوا‏:‏ لا تتمّ الصّدقة إلاّ بالقبض‏.‏ وبأنّ الصّدقة عقد تبرئة، فلا يفيد الحكم بنفسه كالهبة‏.‏

وفي الهبة يقول‏:‏ لو صحّت بدون القبض لثبت للموهوب له ولاية مطالبة الواهب بالتّسليم، فتصير عقد ضمان، وهذا تغيير المشروع‏.‏

وهذا الّذي قاله الحنفيّة، هو الّذي يقابل المشهور من مذهب المالكيّة، وهو ضعيف، عبّروا عنه بقولهم‏:‏ وقيل‏:‏ إنّما تملك بالقبض وهذا النّصّ وإن ورد في الهبة، لكنّ تعريفهم الصّدقة، كما أشرنا إليه قبلاً وما يأتي من الأحكام، يفيد التّعميم في الهبة والصّدقة‏.‏

وهو أيضاً مذهب الشّافعيّة، إذ قالوا‏:‏ لا يملك موهوب - بالمعنى الأعمّ الشّامل للصّدقة والهديّة - إلاّ بقبض بإذن الواهب‏.‏

وجاء في نصوص الشّافعيّة‏:‏ إذا حلف لا يهب له، فوهب له ولم يقبل، أو قبل ولم يقبض لا يحنث في الأصحّ‏.‏ وذلك لأنّه لا بدّ من القبول والقبض حتّى تصحّ الهبة وتتمّ‏.‏

وكذلك المذهب عند الحنابلة مطلقاً كما يقول المرداويّ‏.‏ فقد صرّحوا بأنّ أنواع الهبة‏:‏ صدقة وهديّة ونحلة، ومعانيها متقاربة، وكلّها تمليك في الحياة بلا عوض، تجري فيها أحكامها أي تجري أحكام كلّ واحدة من المذكورات في البقيّة‏.‏

وقالوا‏:‏ وتلزم الهبة بقبضها بإذن واهب، ولا تلزم قبله، أي قبل القبض بإذن الواهب، ولو كانت الهبة في غير مكيل ونحوه، ففي جميعها لا تلزم إلاّ بالقبض‏.‏

وقد استدلّ الحنابلة لما ذهبوا إليه - من إطلاق شرط القبض في الهبة ونحوها، كالصّدقة الّتي نواجهها - بما روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنّ أبا بكر رضي الله عنه نحلها جذاذ عشرين وسقاً من ماله بالعالية، فلمّا مرض قال‏:‏ يا بنيّة‏:‏ كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقاً، ولو كنت جذذته أو قبضته كان ذلك، فإنّما هو اليوم مال وارث، فاقتسموه على كتاب اللّه تعالى‏.‏ وذكر البهوتيّ أنّه روي عن عمر وعثمان، وابن عمر وابن عبّاس رضي الله عنهم، نحو هذا، ولم يعرف لهم مخالف من الصّحابة‏.‏ ورتّبوا على اشتراط القبض، جواز رجوع الواهب في هبته ‏(‏وكذا الصّدقة‏)‏ قبل القبض، لعدم تمام العقد‏.‏

وخالف في اشتراط القبض المالكيّة في مشهور مذهبهم‏.‏ فقرّروا أنّ الهبة ‏(‏وكذلك الصّدقة كما يؤخذ من تفريعاتهم‏)‏ تملك بالقول على المشهور، وللموهوب له طلبها من الواهب، إذا امتنع من تسليمها، ليجبره على تمكين الموهوب له منها‏.‏

وأشار الحنابلة في كتبهم إلى دليل المالكيّة وهو حديث ابن عبّاس رضي الله عنه «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ العائد في هبته كالعائد في قيئه» ويروى «في صدقته»‏.‏ ويروى «كالكلب يقيء ثمّ يعود في قيئه»‏.‏ وجاء في نصوص المالكيّة‏:‏

أ - لو قال‏:‏ داري صدقة أو هبة أو حبس على الفقراء، لا يقضى عليه ‏(‏لعدم التّعيين‏)‏‏.‏

ب - ولو قال‏:‏ داري صدقة أو هبة أو حبس على زيد، فإنّه يقضى عليه بذلك، لأنّه قصد البرّ والقربة حينئذ‏.‏

ج - ولو قال‏:‏ للّه عليّ دفع درهم لزيد أو للفقراء، لا يقضى به مطلقاً، وقيل يقضى‏.‏ وعلّلوا هذا بأنّ القضاء لا بدّ فيه من تعيين المتصدّق عليه أو الموهوب له، ولا بدّ فيه من قصد القربة‏.‏ وفي رواية عن الإمام أحمد أنّه في المكيل والموزون لا تصحّ الهبة والصّدقة، ولا تلزم فيه الصّدقة والهبة إلاّ بالقبض‏.‏

وفي غيرهما يصحّ بغير قبض، ويلزم بمجرّد العقد‏.‏ ويثبت فيه الملك بغير قبض‏.‏

وحاصل الدّليل في هذه التّفرقة القياس على البيع، من حيث إنّها تمليك، ففي البيع ما لا يلزم قبل القبض، كالصّرف والرّبويّات، وفيه ما يلزم قبل القبض، وهو ما عدا ذلك‏.‏ والخلاصة أنّ جمهور الفقهاء يشترطون القبض في التّبرّعات‏.‏

بيع المحاقلة

1- المحاقلة في اللّغة‏:‏ بيع الزّرع في سنبله بالبرّ أو بحنطة - كما يقول الفيّوميّ - وفي الاصطلاح‏:‏ بيع الحنطة في سنبلها بحنطة مثل كيلها خرصاً‏.‏ والخرص‏:‏ الحزر‏.‏

وعرّفها الحنبليّة بما هو أعمّ، وقالوا‏:‏ هي بيع الحبّ في سنبله بجنسه‏.‏

2 - ولا يختلف الفقهاء، في أنّ بيع المحاقلة غير جائز، وهو فاسد عند الحنفيّة، باطل عند غيرهم، وذلك لحديث جابر رضي الله عنه قال‏:‏ «نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن المزابنة والمحاقلة»‏.‏

ولأنّه بيع مكيل بمكيل من جنسه، فلا يجوز خرصاً، لأنّ فيه شبهة الرّبا الملحقة بالحقيقة في التّحريم‏.‏ ولعدم العلم بالمماثلة - بتعبير الشّافعيّة عن معنى البطلان - ويقول الحنابلة في تمام التّعليل‏:‏ والجهل بالتّساوي كالعلم بالتّفاضل‏.‏

وأيضاً تزيد المحاقلة - كما قال الشّافعيّة على المزابنة - بأنّ المقصود من المبيع فيها مستور بما ليس من صلاحه فانتفت الرّؤية أيضاً‏.‏

ويؤخذ من كتب المالكيّة، التّعليل العامّ لفساد المزابنة ونحوهما بالغرر والرّبويّة في الرّبويّات في الجنس الواحد‏.‏ ولزيادة التّفصيل ينظر مصطلح ‏(‏محاقلة‏)‏‏.‏

بيع المرابحة

انظر‏:‏ مرابحة‏.‏

بيع المزابنة

1 - المزابنة‏:‏ مأخوذة من الزّبن، وهو في اللّغة‏:‏ الدّفع لأنّها تؤدّي إلى النّزاع والمدافعة‏.‏ أي بسبب الغبن كما يقول الشّافعيّة‏.‏

وفي الاصطلاح الفقهيّ‏:‏ عرّفها الجمهور بأنّها‏:‏ بيع الرّطب على النّخيل بتمر مجذوذ، مثل كيله خرصاً‏.‏ ‏(‏أي ظنّاً وتقديراً‏)‏ والخرص‏:‏ الحزر‏.‏ وذلك بأن يقدّر الرّطب الّذي على النّخل بمقدار مائة صاع مثلاً، بطريق الظّنّ والحزر، فيبيع بقدره من التّمر‏.‏ فلو لم يكن الثّمن رطباً فهو جائز بسبب اختلاف الجنس‏.‏

وعرّفها الدّردير من المالكيّة بأنّها‏:‏ بيع مجهول بمعلوم، ربويّ أو غيره‏.‏ أو‏:‏ بيع مجهول بمجهول من جنسه‏.‏ وعرّفها ابن جزيّ، منهم أيضاً، بأنّها‏:‏ بيع شيء رطب، بيابس من جنسه، سواء أكان ربويّاً، أم غير ربويّ‏.‏

حكم بيع المزابنة

2 - لم يختلف الفقهاء في حكم هذا البيع‏.‏ فقد اتّفقوا على أنّه بيع فاسد، ولا يصحّ، وذلك لما يأتي‏:‏

- أ - حديث جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما قال‏:‏ ‏{‏نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن المزابنة والمحاقلة‏}‏‏.‏

- ب - ولشبهة الرّبا، لأنّه بيع مكيل بمكيل من جنسه، مع احتمال عدم المساواة بينهما بالكيل‏.‏ ويصرّح الشّافعيّة بأنّ فيهما الرّبا، لعدم العلم بالمماثلة فيهما‏.‏

- ج - وللغرر - كما علّله ابن جزيّ -‏.‏ ومثل بيع الرّطب بالتّمر، بيع العنب بالزّبيب، كما ورد في بعض الرّوايات، زيادةً على المذكور في الحديث السّابق‏:‏ «وعن بيع العنب بالزّبيب، وعن كلّ تمر بخرصه» وأطلق المالكيّة - لعلّه لذلك - عدم جواز بيع كلّ رطب بيابس من جنسه، لا متفاضلاً ولا مثلاً بمثل، حتّى الحبوب‏.‏

بيع المزايدة

انظر‏:‏ مزايدة‏.‏

بيع المساومة

انظر‏:‏ مساومة‏.‏

بيع المسترسل

انظر‏:‏ استرسال‏.‏

بيع الملامسة

1 - الملامسة من بيوع الجاهليّة أيضاً‏.‏ وقد ثبت النّهي عنها في الحديث، فعن أبي هريرة رضي الله عنه «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن الملامسة والمنابذة»‏.‏ وفسّره أبو هريرة في رواية مسلم بقوله‏:‏ أمّا الملامسة‏:‏ فأن يلمس كلّ واحد منهما ثوب صاحبه بغير تأمّل‏.‏ والمنابذة‏:‏ أن ينبذ كلّ واحد ثوبه إلى الآخر، ولا ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه‏.‏ وعن أبي سعيد الخدريّ «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين ولبستين‏:‏ نهى عن الملامسة والمنابذة في البيع»‏.‏ والملامسة‏:‏ لمس الرّجل ثوب الآخر بيده، باللّيل أو بالنّهار، ولا يقلّبه إلاّ بذلك‏.‏ والمنابذة‏:‏ أن ينبذ الرّجل إلى الرّجل ثوبه، وينبذ الآخر إليه ثوبه، ويكون بذلك بيعهما، من غير نظر ولا تراض‏.‏

2 - وفسّرت الملامسة مع ذلك في الفقه بصور‏:‏

أ - أن يلمس ثوباً مطويّاً، أو في ظلمة، ثمّ يشتريه على أن لا خيار له إذا رآه، اكتفاءً بلمسه عن رؤيته‏.‏ أو يلمس كلّ منهما ثوب صاحبه بغير تأمّل - كما يعبّر الحنفيّة - وذلك على سبيل المشاركة من الجانبين خلافاً لما أشار إليه الشّيخ الدّردير، وخالفه فيه الشّيخ عليش وهو مأخوذ من التّفسير المأثور‏.‏

ب - أو يكون الثّوب مطويّاً، فيقول البائع للمشتري‏:‏ إذا لمسته فقد بعتكه، اكتفاءً بلمسه عن الصّيغة‏.‏ قال في المغرب‏:‏ بيع الملامسة واللّماس، أن يقول لصاحبه‏:‏ إذا لمست ثوبك أو لمست ثوبي، فقد وجب البيع‏.‏

ج - أو يبيعه شيئاً على أنّه متى لمسه لزم البيع، وانقطع خيار المجلس وغيره، وهو مرويّ عن أبي حنيفة، أو يقول المشتري كذلك‏.‏

3 - وهذا البيع بصوره المذكورة كلّها، فاسد عند عامّة الفقهاء، قال ابن قدامة‏:‏ لا نعلم فيه خلافاً، وذلك لعدم الرّؤية في الصّورة الأولى، مع لزوم البيع، اكتفاءً باللّمس عن الرّؤية‏.‏ ولعدم الصّيغة في الصّورة الثّانية‏.‏

كما قال الشّافعيّة‏.‏ ولتعليق التّمليك على أنّه متى لمسه وجب البيع، وسقط خيار المجلس في الثّالثة، في تعبير الحنفيّة، والتّملّكيّات لا تحتمله لأدائه إلى معنى القمار‏.‏

وعلّل الحنابلة الفساد بعلّتين‏:‏ الأولى‏:‏ الجهالة‏.‏ والأخرى‏:‏ كونه معلّقاً على شرط، وهو لمس الثّوب‏.‏ ولعلّ هذا هو الغرر المقصود في تعبير ابن قدامة‏.‏

وأجمل الشّوكانيّ التّعليل، بالغرر والجهالة وإبطال خيار المجلس‏.‏

4 - هذا، ونصّ المالكيّة في فروعهم التّفصيليّة هنا، على أنّ الاكتفاء في لزوم البيع، وتحقّقه باللّمس، من غير أن ينشر الثّوب ويعلم ما فيه، هو المفسد‏:‏ قالوا‏:‏ فلو باعه قبل التّأمّل فيه، على شرط أن ينظر فيه بعد ذلك، فإن أعجبه أمسكه وإلاّ ردّه، كان جائزاً‏.‏

بيع المنابذة

1 - بيع المنابذة أيضاً من بيوع الجاهليّة‏.‏ وثبت النّهي عنها في صحاح الأحاديث، كما ثبت عن الملامسة، وفسّرت في بعضها‏.‏ وصوّرها الفقهاء فيما يأتي‏:‏

أ - أن ينبذ كلّ واحد من المتبايعين ثوبه إلى الآخر، ولا ينظر كلّ واحد منهما إلى ثوب صاحبه - أو ينبذه إليه بلا تأمّل كما عبّر المالكيّة - على جعل النّبذ بيعاً‏.‏ وهذا التّفسير المأثور عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه في رواية مسلم‏:‏ «فيكون ذلك بيعهما، من غير نظر ولا تراض» وهو المنقول عن أبي حنيفة - رحمه الله تعالى‏.‏

ب - أن يجعلا النّبذ بيعاً، اكتفاءً به عن الصّيغة، فيقول أحدهما‏:‏ أنبذ إليك ثوباً بعشرة، فيأخذه الآخر ‏"‏ والصّورة الأولى فيها مشاركة بخلاف هذه ‏"‏‏.‏

ج - أن يقول‏:‏ بعتك هذا بكذا، على أنّي إذا نبذته إليك، لزم البيع وانقطع الخيار‏.‏

د - أن يقول‏:‏ أيّ ثوب نبذته إليّ فقد اشتريته بكذا، وهذا ظاهر كلام أحمد - رحمه الله تعالى‏.‏ هذا ولا بدّ أن يسبق تراوضهما على الثّمن مع ذلك، وإلاّ كان المنع لعدم ذكر الثّمن‏.‏ وقد سبق عن الحنفيّة، أنّ السّكوت عن الثّمن مفسد للبيع، ونفيه عنه مبطل له‏.‏

2 - وكلّ هذه الصّور فاسدة، بلا خلاف بين أهل العلم، صرّح بذلك ابن قدامة وغيره، معلّلين الفساد‏:‏

- بالنّهي في الحديث الصّحيح المتقدّم‏.‏

- والجهالة، وعلّل بها الحنفيّة والحنابلة‏.‏

- وتعليق التّمليك بالخطر، لأنّه - في الصّورة الأولى الّتي ذكرها الحنفيّة - في معنى‏:‏ إذا نبذت إليك الثّوب فقد اشتريته، والتّمليكات لا تحتمله، لأدائه إلى معنى القمار‏.‏

- ولعدم الرّؤية، أو عدم الصّيغة، أو للشّرط الفاسد، كما علّل الشّافعيّة‏.‏